كيف نستثمر مواهب الحياة ؟

 

كثير من الشّـباب فتياناً وفتيات يسألون أنفسهم ماذا نملك من الثّروات حتّى نفكِّر في تنميتها والاستفادة منها في شؤون حياتنا المختلفة ..
قد يرى البعض انّه فقير أو مُفْلِس لا يملك شيئاً لا نّه لا يفعل ما يريد مثل الكبار .. هذا التصوّر الخاطئ هو الّذي جعل عدداً من الفتيان والفتيات يرون العالَم مُظلِماً والحياة تعاسة وحرماناً ..
تكتب فتاة في السّادسة عشرة من العمر مذكّراتها فتقول :
«لا أستطيع التعبير عن شيء .. أصبحتُ قريبة لفقدان الذاكرة، كثيرة القلق والتفكير، عديمة الثِّقة بنفسي .. أيّ عمل أقدِم عليه أخاف نتائجه وأتردّد في القيام به، دائمة الحزن .. عندما أنظر إلى وجهي في المرآة أجده بشعاً، فأكره نفسي وأتمنّى لو لم اُخلَق» .
ويكتب أحد الفتيان فيقول :
«كنتُ إذا نظرتُ في المـرآة وأنا شـاب أسـأل نفسي حين أرى خيالي .. هل هذا الّذي يشبهني تماماً يمكن أن أحبّه لو انّه خرج من المرآة بقدرة الله وعاش معي ؟... » .

-

أحياناً يلقي المراهق مسؤوليّة ما يحصل له على اُسرته وخاصّة على والديه ; لا نّه لا يجد أحداً يلقي اللّوم عليه أفضل منهما .
هذه فتـاة في الخامسة عشرة من العمر تدخل إلى عيادة أحد الاطباء المعروفين الّذين له مؤلّفات عن الطّفولة والمراهقة .. تدخل هذه الفتاة برفقة اُمّها وتطلب من الطّبيب أن تتحدّث إليه وحده، وهكذا يكون ..
بدأت الفتاة منذ اللّحظة الاُولى بانتقاد أبويها وإلقاء اللّوم عليهما بأنّهما لا يعطيانها الفرصة ويسخران منها ..
تحدّث الطّبيب الحاذِق مع اُمّ الفـتاة ليسمع رأيها حول ابنتها، فاستمع إلى كلام مُعاكِس من الاُم، فتحقّق من الموضوع ووجد من خلال تجربته وخبرته الطّويلة أنّ هذه الفتاة تخشى من الفشل ومن عدم اعتراف الآخرين بها كبنت راشدة، ويصعب عليها أن تتّهم نفسها، فوجدت الحلّ في أن تهاجم أبويها بمجرّد أن يرفض أبوها أو اُمّها لها طلباً .
نحن نحتاج إلى رعاية الابوين بشكل خاص وإلى إرشاد الكبار بشكل عام، لكنّنا لسنا أطفالاً لكي نعتمد بالكامل عليهم ..

-

الاُسرة هي قاعدة الانطلاق، كما ينطلق الرحّالة من مبدأ حركته ومرسى سفينته، أو كما ينطلق المتسلِّق من مقرِّه ومخيّمه في سفح الجبل ..
الاُسرة هي الملجأ والملاذ أيضاً، نعود إليها في الاوقات التي نحتاج إليها، لا سيّما في المراحل الصّعبة من الحياة لتمنحنا سكوناً وطمأنينة ..
رغم هذه الحقيقة وهذه الاهمية للاُسرة، فإنّنا نستعد في هذه المرحلة من العمر أي في سنّ المراهقة، لتحمّل بعض مسؤوليات الحياة على الاقل، حتّى نتأهّل شيئاً فشيئاً لان نكون مسؤولين بالكامل عن أنفسنا بل عن اُسرة نكوِّنها في المستقبل، أو عن دائرة نعمل فيها، أو عن المجتمع الّذي نعيش فيه ..
ويحقّ لنا أن نسأل منذ البداية، وقبل أن نضع خطواتنا في الطّريق إلى عالَم الرّشد، ماذا منحتنا الحياة من ثروات وطاقات وكفاءات حتّى نستثمرها في هذا الطريق ؟ ما هي القدرات والاستعدادات التي وهبها الله لنا لنجعلها رأسمالنا في هذه الحياة ونعمل على تنميتها واستثمارها في مراحل العمر كلّها ؟ إذن يجب أن نحصي ما لدينا من طاقات وثروات .
أوّلاً :  العقـل، هذه الثروة الهائلة وأكبر الكنوز التي نملكها نحن البشر ونتميّز به عن سائر المخلوقات في الارض .. هذا الوعاء الذي يستوعب الفكر والعلم والتجربة والمعرفة .. هذا الدليل المُرشِد الّذي يدلّنا على الطّريق ويرشدنا إلى الخير والصّلاح، والّذي يميِّز لنا الحقّ من الباطل والخير من الشرّ، وهو الّذي يُراقب كلّ خطوة منّا حتّى لا تخرج عن الطريق الصحيح ..

-

ولكن هل يكون العقل ثروة لمن يهمله ولا يستفيد منه ولا يعرف قدره ؟
الحكماء يقولون انّ العقل وزير ناصح ; لانّ آراء الوزير وإرشادات الوزير تنفع حينما يستوزره الحاكم على مملكته .. فهل نستوزر نحن العقل هذا الوزير الناصح على مملكتنا الشخصيّة ؟
ثانياً :  الارادة .. وهي التي نسمِّيها أحياناً الاختيار .. كلّنا مخيّرون وقادرون على القيام بعمل ما أو تركه .. الارادة عند الانسان تجعله أقدَر من جميع المخلوقات التي نعرفها على فعل ما يريد، أو الامتناع عن اُمور يحتاجها، كالنّوم والرّاحة أو الاكل والشّرب، لهدف أكبر وغاية أسمى ..
كثير من العظماء قلّلوا ساعات نومهم وأخذوا من أوقات راحتهم للدراسة والاجتهاد والسّهر مع العلم والمعرفة، حتّى نالوا شهادات عُليا وحصلوا على مواقع مهمّة في المجتمع وظلّ ذكرهم حيّاً بين الناس ..
المؤمنون يمتنعون عن الاكل والشرب أثناء الصِّيام ليعبدوا ربّهم وليتعلّموا الصّبر ويواسوا الفقراء، فإذا أصبح الصّبر عادة بالنسبة لهم صاروا يتحمّلون بشكل طبيعي بعض مصاعب الحياة .

-

إنّ الارادة والصّبر والاستقامة هي الطريق إلى النجاح في كثير من الاعمال التي يقوم بها الانسان .
ثالثاً :  العاطفة والاحساس .. من المؤكّد أنّ العاطفة تقوى عند الشّباب، لا سيّما عند الفتيات لا نّهنّ اُمّهات المستقبل .. وقد نلاحظ في مذكّرات هذه الفتيات ميلهنّ الشّديد إلى البكاء أو تعلّق بعضهنّ الشديد بصديقاتهنّ أو مدرِّساتهنّ ..
هذه العاطفة تُعتبر ثروة للانسان، يتفاعل بها مع الاشياء من حوله، فيحبّ ويكره، ويرضى ويغضب، ويرغب في شيء أو ينفر منه ..
فالعاطفة تربط الانسان بالآخرين وتزيد حياته دفئاً بين أحبّائه واُسرته وتحميه من اللاّمُبالاة ..
الاحاسيس تنمو هي الاخرى عند المراهق ليصبح مُرهَف الحسّ، شاعري المزاج في تعامله مع الاشياء من حوله، كصور الطّبيعة وأحداث الحياة، ويميل إلى قراءة الشّعر والقصّة، ويرغب في ممارسة الرّسم والانشاد، ويُقبِل في هذه المرحلة على الفنّ إحساساً وتذوّقاً للجمال، أو محاولة في التعبير عنه من خلال لوحة فنِّيّة، أو أبيات من الشِّعر، أو غير ذلك من التعابير ..
العاطفة والاحساس كلاهما ثروة مهمّة إذا عرف الانسان كيف يستثمرهما في حياته .

-

رابعاً :  الخيال .. وهو ليس كما يتصوّره البعض بأ نّه يُبعِد المراهق عن الواقـع، أو يجعله يسبح في عالَم آخر، وبالتـالي يُجمِّد طاقاته وإمكانيّاته ; فإنّ الخيال شيء جميل ونافع ويستحقّ الاهتمام، وله دور مهم في حياة الانسان ..
قد يفرّ الانسان بخياله من الواقع المرّ، ولكن في الغالِب يلجأ الانسان إلى الخيال وأحلام اليَقْظَة وينسج الآمال في تصوّراته لا نّه يريد أن يكون مثاليّاً، وأن يكون ناضجاً وبلا عيوب، وهو يشبه إحساس المُكتَشِف أو الرحّالة الّذي يتصوّر أرض أحلامه في خياله قبل أن يتحرّك لاكتشافها في الواقع ..
هذا الخيال نافع جدّاً لهذا المكتشف أو الرحّالة لانّ له صلة بعالَم الواقع ..
الخيال ثروة حقيقية لنا إذا استطعنا أن نربط بينه وبين الحياة بجسور عديدة، فلا نسمح للخيال أن يتغلّب على الواقع فنبقى نسبح في الآمال والاُمنيات، ولا نجعل الواقع كذلك يتغلّب على الخيال فتكون طموحاتنا محدودة وضيِّقة .. لِنَترك للخيال الآمال والغايات ونجعل الواقع يسير بنا نحو تلك الآمال والغايات .
خامساً :  الصحّة أو العافية .. ثروة لا تُقدّر بثمن ..
جاء في الحديث الشريف أنّ خمساً من الاُمور يجب اغتنامها قبل

-

خمس : الشّباب قبل الهرم والفراغ قبل الانشغال والقوّة قبل الضّعف والصحّة قبل المرض ..
يكفي أن نفكِّر قليلاً في أهميّة هذه الثروة .. ماذا نفعل لو فقدناها فجأة ..
كثير من المرضى والمعوّقين يتمنّون أن تكون لهم صحّة كاملة ليعودوا إلى نشاطهم الطبيعي في هذه الحياة ..
العافية أو الصحّة ثروة يجب أن نحافظ عليها ونصونها بالغذاء السّليم وبالنظافة، وما يمكن أن نمارسه من الرياضة .. وعلينا أن نهتمّ أيضاً بالجانب الآخر من الصحّة أي نظافة نفوسنا من الاخلاق السيِّئة والاحقـاد والكراهيّـة وترويضها على الصِّـفات الحسنة، كما نراعي نظافتنا الظاهريّة وكما نقوم بالرياضات البدنيّة .
مع وجود هذه الثروات وغيرها، هل أستطيع أنا الشّاب أن أعتبر نفسي فقيراً أو تعيساً أو محروماً، خاصّة أنّ الثروات ليست محدودة بهذه المواهب التي أشترك بها مع الآخرين، فقد تكون لكلّ فرد منّا موهبته الخاصّة به .. وما عليه إلاّ الاستفادة منها وتنميتها وتقويتها أو استثمارها كما يستثمر التاجر رأسماله ليكسب أرباحاً جديدة ويضيف إلى أمواله ثروات أخرى ورأسمال جديد ..
فضلاً عن ذلك كلّه، هناك كفاءات أخرى يمكننا أن ندخلها في

-

صميم حياتنا، فتوجد تحوّلاً كبيراً وتجعلنا قادرين على إنجاز أعمال مهمّة والوصول إلى غايات وأهداف كبيرة .. إنّ هذه الكفاءات نقلة نوعيّة في حـياتنا وسيّما في سنّ المراهقة لتحقيق أشياء لا نتصوّر حدوثها في الحالات العاديّة .. ومنها :
الابداع :  كفاءة وطاقة واستعداد يكسبه الانسان من خلال تركيز مُنظّم لقدراته العقليّة وإرادته وخياله وتجاربه ومعلوماته ..
الابداع يُعدّ سرّاً من أسرار التفوّق في ميادين الحياة، ويمكِّن صاحبه من كشف سبل جديدة في تغيير العالَم الّذي يحيط بنا والخلاص من الملل والتكرار ..
إذا أردنا تحقيق مثل هذه الكفاءة في حياتنا، فلابدّ أن نضع عدّة لافتات أمامنا، ونتبّع معها طريق الابداع، هذه اللاّفتات هي :
ـ  تقوية الخيال والاحساس .
ـ  توجيه المشاعر نحو الاهداف الجميلة .
ـ  تنمية الفكر والثقافة والمعلومات .
ـ  تبسيط الحياة وعدم الانشغال كثيراً بهمومها .
ـ  اكتشاف النظام في الاشياء التي لا نجد فيها نظاماً في النظرة الاُولى .
ـ  أن نقدِّم الجديد بعد الجديد، وأن نفعل ذلك كلّ يوم .

-

ـ  أن نحبّ أنفسنا والآخرين وأن يكون حبّنا الاقوى للخالق المُبدِع .
ـ  أن نُصاحب أصدقاء مُبدِعين .
ـ  أن نُطالِع كتباً أو قصصاً أو أشعاراً تدعونا إلى التفكير والابداع لا إلى التقليد .
الايمـان : طاقة عظيمة نكتسبها من خلال الاعتقاد الصحيح بخالق الكون والمدبِّر له، ومشاهدة جماله وكماله في الخلائق كلّها صغيرها وكبيرها، وتلمّس رحمته التي وسعت كلّ شيء . ومن خلال عبادته التي تزوِّد النفس بطاقة روحيّة كبيرة تجعل الانسان أقوى وأكثر توازناً عند الشّدائد ..
الايمان ثروة ينالها الشّاب أسهل من غيره لانّ نفسه الطريّة تتفتّح عليها آفاق الحياة سواء كانت هذه الافاق مادِّيّة أو روحيّة ومعنويّة .
الهمّة العالية : ثروة ضخمة وقوّة كبيرة تدفع الانسان إلى غاياته وتبعد عنه اليأس والضّجر والمَلل .
يُشير الحديث الشريف إلى أنّ المرء يطير بهمّته كما يطير الطّير بجناحيه .. الانسان بحاجة ماسّة إلى همّة عالية وهو في طريقه إلى الرّشد والنضوج .. الطّريق الّذي يرسم له الغايات في هذه الحياة ..
أمّا حصولنا على هذه الثروة الكبيرة فهو ممكن إذا اتّبعنا بعض القواعد في حياتنا :

-

ـ نتذكّر دائماً انّنا بشر ونستطيع أن نرقى إلى الكمال الّذي نريده .
ـ نشدّ عربتنا إلى نجم كما تقول الحكمة ; أي نكوِّن لانفسنا قيماً وأهدافاً عُليا نسعى للوصول والارتقاء إليها .
ـ لا ننشغل بالصّغائر والاُمور التافهة وغير المهمّة .
ـ لنكُن أخلاقيين في التعامل مع الآخرين ولا تحدِّدنا مصالح شخصيّة .
ـ لنكُن مُبدِعين في كلِّ شيء حتّى في تحديد الاهداف واختيار الاساليب والطّرق التي توصل إليها .
ـ لنهتمّ بجمال الباطن كما نهتمّ بجمال الظّاهر .
ـ لنختر أصدقاءً من أصحاب الهمم العالية .
ما ذكرناه في هذا الفصل هو أهمّ المواهب التي نملكها نحن الشّباب أو نستطيع أن نكسبها من خلال ما لدينا من طاقات واستعدادات ذاتيّة ومشتركة .. وينبغي أن نؤمن بأنّ الحياة وخالقها يستطيعان منحنا المزيد ثمّ المزيد من المواهب إذا واصلنا الكشف والبحث، فكنوز الحياة ليس لها نفاد (إن تُعِدوّا نعمةَ اللهِ لا تُحْصوها ) .

-

 

كيف نبتعد عن شرور الحياة ؟

الانسان ذو هدف ورسالة، فما هي رسالته في هذه الدّنيا ؟
الانسان خُلِقَ ليطلب الخير والسّعادة في الحياة، ليتّجه إلى شرورها وما يجلب له الشّقاء .. فالحـياة فيها الخير وفيها الشّرّ، والانسان هو الّذي يختار ما يُليق به من الخير، ويتجنّب ما لا يُليق به من الشّرّ .
يا تُرى إذا  قُدِّمَ لاحدنا وجبة من طعام أو قطعة حلوى من شخص لانعرفه، فهل نتوجّه إلى الاكل مُباشرة، أم نطمئن أوّلاً إن كانت وجبة الطّعام هذه أو قطعة الحلوى تلك سالمتان من التلوّث على الاقل .
نحنُ نختار النظافة في كلِّ شيء نتناوله أو نستعمله لندرأ عن أنفسنا الجراثيم والاوساخ التي تجلب الامراض وتضرّ بسلامتنا الصِّحيّة .. ينبغي أن نفعل هكذا مع الصِّفات السّيِّئة والاهواء الشِّرِّيرة التي تعبث بأخلاقنا وتُخرِّب مزاجنا النفسيّ .
الانسان عندما يتعرّض إلى الامراض البدنيّة يُبادِر إلى العلاج، فيشفى من المرض عادة، إلاّ أنّه يتعرّض أحياناً إلى أمراض النّفس والرّوح فلا يُبادِر إلى العلاج ; لا نّه لا يشعر بها في الظّاهر، وقد تفتك به في نهاية الامر .

-

كلّ منّا يملك إضـافة إلى جهازه البدنيّ جهازاً نفسـيّاً وعقـليّاً، وأخطر شرور الحياة هي التي تُؤذي جهازنا النفسي أو تُخرِّب برنامجه الاخلاقي الرّائع .
البرنامج الاخلاقي يُشكِّل جوهر الانسان وروحه، فإذا فقد الانسان هذا البرنامج لم يبقَ له سوى قشرة لا تنفعه إلاّ للعيش في هذه الحياة كالنّبات أو الحيوان .
صفات الخير والفضائل في المقابل تروي قلب الانسان وروحه بالاُمور التي تُسعده وتجعله كاملاً ومصدراً للخير لنفسه وللاخرين .
هناك حقيقة اُخرى هي أنّ الانسان في هذه الحياة يقع بين قطبي الشّرّ والخير .. فكلّما اقترب من قطب الخير ابتعد بنفس المقدار عن الشّرّ ..
إذا كان أحدنا وفيّاً مع صديقه ومضحِّياً له عندما يتعرّض هذا الصّديق لنائبة أو مشكلة، فإنّنا في الحقيقة بعيدون عن خيانته أو الغدر به .. والنتيجة الطّـبيعية لهذه الصِّفة هي حُبّ الاصدقاء لنا والتفاهم حولنا .
هكذا إذا  كان أحدنا بارّاً بوالـديه .. فذلك يعني ببساطة أنّنا لا نُسيء إليهما، وما نحصل عليه في المقابل هو حبّهما وتقديرهما لنا، أو حبّ الآخرين واحترامهم لنا، وفوق ذلك كلّه حبّ ورضا من مصدر الخير في الكون أي الله تبارك وتعالى .
يشيع البعض أو يُحاوِل أن يُصوِّر لنا أنّ الخير معناه الحرمان من

-

لذائذ الحياة ومُتعها، والحقيقة هي أنّ الخير هو حُسن استعمال المواهب والطّاقات، وهو الاستفادة الصحيحة من لذائذ الحياة ومُتعها وجمالها .
إنّ الّذي خلق لنا هذه المواهب وزوّدنا بهذه الطّاقات لا يريد أن يحرمنا من ثمارها، وإنّما يريدنا أن نستخدمها بطريقة صحيحة نافعة، وتجعلنا في طريق الخير أبداً وعلى الدّوام .
الشّرّ إذن هو أن نسيء استعمال هذه المواهب ولا نستمتع بشكل صحيح من لذائذ الحـياة، فنضيع في متاهات الطّريق ونغفل عن الغايات التي تتلائم معنا كبشر . لكن السؤال المهم والكبير هو ما الّذي يجعلنا أحياناً نختار الشّرّ رغم مساوئه أو نفسح له المجال ليدخل عالمنا الشّبابيّ الجميل ؟!
الاجابة على هذا السـؤال تحتاج إلى طرح العديد من الاسئلة الصغيرة في الظّاهر، ولكن، الكبيرة في حقيقتها وأثرها على حياتنا، خاصّة في المرحلة التي نعيشها .
فهل نحنُ ممّن يستصغر نفسـه ويحتقر ذاته ؟! إذا  كان كذلك هانَ علينا الشّرّ ..
لا يعقل أحد أنّ أميراً من الاُمراء أو زعيماً من زعماء الدّول أو نجماً من نجوم السينما ينحني لالتقاط شيء تافه من الارض .
ربّما كان هذا الشيء مهمّا بالنسبة للاخرين، لكن شأن الامير أو

-

الزّعيم أو النّجم يمنعه من الاهتمام بذلك الشيء، ولا يليق به أن يفعل ذلك، كذلك لا يليق بنا كبشر أن نجعل أنفسنا عرضة لسوء الخلق أو الحقد، أو الإساءة والظّلم للاخرين، أو الكذب أو السّرقة، وما شابه ذلك من الشّرور والذّنوب .
هل نحنُ ممّن يستهين بالعدوّ ؟
على الاقل لا نفعل ذلك مع أعدائنا من الميكروبات والفيروسات المرضـيّة .. فهل نفعـل ذلك مع الفيروسـات من النوع الآخر، أي الفيروسات الاخلاقيّة .
هناك قصّة طريفة تُروى عن أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما كانوا بصُحبـته في أرض قاحلة جرداء، وكان الجوّ بارداً، فسـألهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، هل يستطيعون جمع كمِّـيّة من الحطب لاشعالها والدفء بحرارتها ؟
فقال الاصحاب بأجمعهم : إنّه لا يوجـد في هذه الارض زرع أو شجر، فكيفَ يجمعوا حطباً ؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : فليأتِ كلّ فرد بما يقدر عليه .
فذهب الاصحاب يجمعون ما يشاهدونه من أشواك ونباتات يابسة صغيرة، ثمّ جاءوا به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتجمّع من الحطب مقدار كبير .

-

فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا تجتمع الذّنوب الصّغيرة، مثلما اجتمع هذا الحطب . ثمّ قال : إيّاكم والمحقرات من الذّنوب .
هل نحنُ ممّن لا يرى إلاّ أمام قدميه ولا ينظر إلى الاُفق البعيد ويتجاهل العواقب ؟
لا يبدو أنّ الحصان المشدود إلى محور الطاحونة ليديرها كما كان يحصل في الماضي أو يحصل في الحاضر في بعض مناطق من العالم، لا يبدو هذا الحصان مستاءً من عمله وهو يسير آلاف الاميال دون أن يبرح مكانه ..
قد يكون كذلك لانّه ينظر فقط أمام قدميه، ولكن الذي يراه عن بُعد ومن خارج الطّاحونة يأسف لحاله ..
نفس الحالة نجدها مع الحصان الذي شُدّ بعربة ووضع صاحبها جزرة معلّقة بعصا طويلة على مسافة أمام عينيه ليسير الحصان طمعاً في الوصول إلى الجزرة دون جدوى ; لانّ الجزرة تبقى على مسافة من الحصان أمامه كلّما دفع بالعربة إلى الامام، ولكن الذي يمكن أن ينقذ الحصان من هذا الوضع هو أن يغضّ بصره عن الجزرة وينظر إلى آفاق الطّريق .
هل نحنُ ممّن تنحصر همّته في دائرة نفسه ؟
إذا  كان الامر كذلك، فنحنُ أشبه بتلك الضِّفدعة التي تعيش في

-

البئر ولا تُفارقه، وتحسَب أنّ العالَم كلّه هو ما يحيط به جدران البئر، ولا يدخل في مخيّلتها عالَم الحقول والمزارع والمياه المتدفِّقة الجارية خارج البئر .
هل نحنُ ممّن يمضي في طريق دون أن يُراجِع نفسه ؟
هذا هو حال المسافر الذي يختار طريقاً خاطئاً ولا يلتفت إلى العلائم والاشارات على جانب الطّريق، ولا يسأل أحداً .. فما دام هذا المسافر على حاله لن يصل إلى مقصده ولو زاد في سرعته بنفس الاتِّجاه لازداد بُعداً عن المقصد الّذي يريده .
هل نحنُ ممّن يُؤجِّل فعل الخير إلى أجل مُسمّى ؟
مثلاً أن نقول ما زال هناك مُتّسع من الوقت لفعل هذا الخير أو ذاك .. أو نقول إنّ المسؤوليّة ما زالت مُبكِّرة بالنسبة لنا، وما شابه من الاقوال والافكار ..
هذا يعني أنّنا نريد أن نُبقي صمّام الشّرّ مفتوحاً دون أن نفتح صمّام الخير .. فنجد بعد فترة أنّ خزّان النّفس قد مُلِئ شرّاً ; لانّنا أغلقنا صمّام الخير حتّى إشعار آخر، ولم نفسح له المجال ليملأ نفوسنا وتبتهج به حياتنا .
هل نُصادِق الاشرار وأصحاب الخُلق السّيِّئ ؟
هل نحنُ مُستعدّون لبناء علاقات شخصيّة مع هؤلاء ؟

-

إذن سنجعل قطب الشّرّ يقوى فينا ونقع شيئاً فشيئاً في ميدان جاذبيّته ; لانّ الاقتراب من قطب الشّرّ والانسجام معه بشـكل من الاشكال يُبعِدنا من قطب الخير .
هل نستخدِم جهازنا العقليّ وبرنامجنا الاخلاقيّ باستمرار ؟
وإذا حصل ودخل فيروس من الشّرّ في برنامجنا هذا، هل نبحث عن طريقة سريعة لاخراجه ؟، كما نفعل بأجهزتنا الكمبيوتريّة التي نملكها في البيوت، أو التي نستخدمها في أماكن دراستنا وعملنا ..
هناك العديد من الاسئلة على غرار التي ذكرناها لمعرفة السُّبل التي تسلك منها الشّرور إلى حـياتنا، فمثلاً قد نُسأل أيضاً، هل نحـنُ من الّذينَ يهتمّون بجمال الظّاهر والاناقة في الملبَس فحسب ؟ أم نهتم أيضاً بجمال الباطن والاخلاق وجمال العقل والفكر .
وأيضاً، هل نستطيع أن نُميِّز الخير من الشّرّ ؟
إنّ الشّرّ قد لا يكشف لنا عن وجهه البَشِع، بل يأتي إلينا بظاهر جذّاب يخلط فيه السمّ بالعسل ..
فالحذر كلّ الحذر من الشّرّ إذا لبسَ ملابس الخير .
إنّ أفضل الطّرق لمعرفة الشّرّ أو حقيقة الاعمال التي نُسمِّيها شروراً ورذائل أخلاقيّة أو ذنوباً هو أن نتأمّل في عواقبها ونتائجها .

-

الانحراف، امتهان النّفس، الادمان على المخدّرات، الانجراف في عصابات الجريمة، السّجون وغيرها، هي أمثلة من هذه العواقب إذا ما سمح الانسان للشّرور أن تغزو عالمه الطّاهر الشّفّاف لتُعكِّر ما فيه .
ونقول أخيراً أنّ الخير يعني أن نشيع الفضائل في حياتنا وحياة الآخرين من حولِنا .. وهذا يعني استمتاع بمواهب الحياة وجمالها ولذائذها، مع شعور بالاطمئنان والتوازن والسّعادة .
والشّرّ لا يمنحنا ذلك كلّه، وإنّما يتظاهر بأ نّه يُحقِّق لنا الاستمتاع بالحياة .
هل من الخير أن يعيش الانسان أنانيّاً دون أن يهتم بالآخرين ؟ هل من الخير أن يعبث الناس بالغذاء في الوقت الّذي يموت فيه ملايين الاطفال من الجوع ؟
أسئلة وأسئلة تدعونا للتفكير لكي نختار نوع الحياة التي نعيشها ولا نقع فيما وقع به غيرنا من الشّرور والاخطاء، وأن نسـتغلّ فرص الحياة في طريق يحفظ الانسان ومجتمعه من المخاطر والمشاكل والويلات .

-

 

 الشهومي 2004